خطب رمضان


خطب في شهر رمضان المبارك  
 
 
 
 





الاستعداد لرمضان 
الخطبة الأولى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له
وأن نبينا محمد عبد ورسوله


أما بعد،

أيها الإخوة، اتقوا الله تعالى ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا
 فتقوى الله عز وجل من خير أعمالكم وأزكاها 
وتقوى الله عز وجل تتقد جذوتها ويشتد وهجها ولمعانها في مواسم الخيرات

ولهذا رغّب الله تعالى على اغتنامها 
والتعرّض لنفحات الله تعالى التي يتفضّل بها على عباده
وأمثل الاغتنام إذا كان يسبقه استقبال وتهيئة نفسية وتهيئة دينية
فإذا تهيّأ المرء لذلك..
فإنه بإذن الله تعالى يغتنم تلك المواسم على أحسن وجوهها



أرأيتم الصلاة؟ 
كيف يستعد المسلم لها...
من إجابة المؤذن، والوضوء الحسن لها، والمشي إليها وانتظارها،
فإنه إذا أدّى ذلك فإنه يكون قد استقبل الصلاة استقبالا أمثل فينتفع منها
بينما ذلك الذي يقفز إلى الصلاة من دنياه دون تهيؤ ودون استعداد..
فإنه يفوته خير كثير

هذه تلاوة القرآن الكريم ، من أفضل العبادات،
قد شرع الله تعالى لها الاستعاذة،
بأن يستعيذ المرء، ويستعيذ التالي لكتاب الله تعالى قبل أن يدخل في حضرة التلاوة،
وما ذاك إلا لتهيئة النفس 
وطرد الشياطين منها..
 لتُقبل وتنتفع من هذه التلاوة انتفاعا تاما لا يستنقص الشيطان منها شيئا



وها نحن على أبواب شهر فضيل
شهر الله عز وجل... شهر القرآن... شهر الرحمة...
 الشهرالذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوحي إليه بالقرآن الكريم
الشهر الذي فيه ليلة خير من ألف شهر،
تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر

إنه شهر الخيرات
وشهر الفضائل والرحمة، شهر مبارك،
بَشّر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند مَقدمه، فقال
أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترَضَ الله عليكم صيامه،
تُفتَّح فيه أبواب الجنة،
وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلّ فيه الشياطين،
فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلصون إليه
ينادي فيه منادي الخير
"يا باغي الخير أقبِل، ويا باغي الشر أقصر"
فبأي شيء يتهيؤ المرء ويتهيؤ الصائم لهذا الشهر الفضيل وهذا الضيف الكريم الذي يُغدق على من ينزل عليه بالخيرات

إذا كنت تنتظر ضيفا كريما وضيفا جليلا
فإنك تهيىء منزلك، وتهيىء شخصك ونفسك تهيئة تامة وتعد نفسك ماذا تقول وبأي شيء تتقدم.. وهكذا
فكيف بشهر يأخذ بيدك إذا استعددت له وقمت بواجبه..
إلى جنات عرضها السماوات والأرض !


هذا الشهر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه "رَغِم أنف من أدرك شهر رمضان ولم يدخل الجنة"، لما فيه من وجوه الخير ، ولما فيه من أبواب البِرّ المتنوعة والمتعددة

فإذا كنا يا عباد الله نتهيأ لهذا الشهر بأنواع المآكل والمشارب، فما أجدرنا أن نتهيأ التهيؤ الحقيقي الذين ينفعنا والذي فُرِض من أجله الشهر، فُرِض علينا صيامه من أجله، وهو تقوى الله عز وجل، قال تعالى

(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)

... أي لأجل أن تتقوا


فلهذا ينبغي على المؤمن أن يهيّء نفسه تهيئة تامة،
وأن يجهز نفسه لاستقبال هذا الشهر
بحيث لا تفوت منه ساعة إلا وقد انتفع منها،
حتى في نومته، ينتفع منها لأجل أن يتقوّى وأن يجتهد في العبادة وفي طاعة الله عز وجل،
وفي اغتنام هذا الشهر بقدر ما أمكن، وبقدر استطاعته


القصد من هذا الشهر يا عباد الله هو التربية..
 تربية النفوس، وتزكيتها، وليس المقصد منه التلاوة لكتاب الله بقصد الختم،
أو الصيام بقصد الامتناع عن الطعام والشراب وشهوة الفرج،

فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم
"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه"


وقال ابن مسعود رضي الله عنه عن كتاب الله عز وجل
"لا تهُذّوه هَذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقل" 
أي بأن تقذفوه كما تقذفوا الرُّطَب اليابس الرديء.
 قفوا عند عجائبه! حرّكوا به القلوب... ثوّروا القرآن، وأثيروا القرآن 

ما الفائدة من أن يختم الإنسان القرآن دون أن يتعظ، ودون أن ينتفع،
ودون أن تعود عليه بالخير وبالانتفاع من الهدايات التي قال الله تعالى عنها
"ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"

التهيئة النفسية ضرورية جدا 
بأن يتوب الإنسان إلى الله عز وجل
وأن يطهّر نفسه من الرذائل ومن العادات السيئة ومن الأخلاق المشينة ومن الأقوال غير الطيبة


يجهّز نفسه تجهيزا جيدا..
بأن يستقبل هذا الشهر بنفس زكية، وبتوبة صادقة، وبعزم أكيد،
وبتخطيط لأهداف ومقاصد سامية،
لينتفع من كل ساعة فيه انتفاعا يعود عليه بالخير وبالرحمة
فلا ينقضي يومه ولا على فِطره إلا وهو قد سجّل سبقا وعملا خيرا مبرورا

نسأل الله تبارك وتعالى أن يسلّمنا لشهر رمضان،
وأن يبلّغنا إياه على خير، وأن يجعلنا ممن أدركوه،
ففازوا بصيامه وقيامه على الوجه الذي يحبه ويرضاه



أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه،
إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى
أما بعد،

فإن البيوت تعمل عملا دؤوبا قبل دخول شهر رمضان،
وهذه ظاهرة واضحة للعيان، فالكل يهيىء بيته ويهيىء منزله لهذا الشهر، وهذا أمر حسن، وأمر محمود..
إذا كان على وجهه الصحيح
فلا بأس ان يجتهد الإنسان في تزويد بيته بالطعام والشراب المناسب لهذا الشهر..
 دون إسراف ولا تبذير 

لكن ينبغي عليه أن لا يغفل عن الاستعداد الحقيقي..
وتهيئة بيته تهيئة تليق بهذا الشهر الذي من أجله فُرض هذا الشهر علينا..
وهو تقوى الله عز وجل
وهو ُيعمَر بيتك بتلاوة القرآن وبطاعة الرحمن وبالاجتهاد 

بعض الصائمين يؤمّن لبيته المطعم والمشرب والمسكن تهيئة تامة،
ثم ينقطع ويتجرّد للعبادة ويجتهد فيها، لكنه يدع بيته، ويدع تربية أهله
وهذا يُخشى أن يصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم
"كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول"
وتضييعك من تعوله هو عدم تربيتهم، وعدم توجيههم

فإذا كنت تجتمع مع أهلك كل يوم على مائدة الإفطار المتعددة بأصناف مآكلها ومشاربها..
فما يمنعك من أن تجتمع معهم على مائدة القرآن المتنوعة في تربيتها وأخلاقها وسموّها..
وما فيها من الحكم وما فيها من الآداب والمواعظ ؟!

لماذا لا يخصّص كل واحد منا ساعة يجتمع فيها مع أهله على تلاوة القرآن، 
أو على آداب القرآن، وعلى مواعظه، وعلى حِكمه، وعلى هَديه




إن مَن استرعاهم الله علينا أمانة يجب علينا أن نرعاهم وأن نوجههم بالحكمة،
وأن نساعدهم في أن ينتفعوا من هذا الشهر،
فالشباب والفتيات والأزواج بحاجة إلى أن يُوجّههوا إلى أن ينتفعوا من هذا الشهر انتفاعا تاما
وأن يستقبلوه استقبالا صادقا يعود عليهم بالخير

كما ينبغي أن لا تنطفىء أنوار القرآن وأنوار هذه الخيرات في بيتك 
في كل يوم وفي كل ليلة من هذا الشهر


فانتهزوا رحمكم الله في إصلاح نفوسكم وإصلاح أهليكم،
والتخطيط الجيد لتوجيه أبنائكم وبناتكم وأُسَرِكم في أن يستفيدوا من هذه الرحمة 
وهذا الخير الذي سيُقبِل علينا بإذن الله تعالى

 ثم صلوا وسلموا على سيدنا رسول الله 

اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد
وارض اللهم عن الإئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ،
وعن سائر أصحاب نبيّك وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا ذا الجلال الإكرام

***
مكتبة خطبة "الاستعداد لرمضان"
اضغط هنا لتحميل نص الخطبة (بي دي إف)

***


 "التقوى في شهر الصيام" 




الخطبة الأولى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين
وأستعينه وأستغفره وأستهديه
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له
وأن نبينا محمد عبده ورسوله
خير من صلى وصام وزكّى وحجّ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا

أما بعد،

فيا أيها الصائمون، هنيئا لكم بلوغ هذا الشهر العظيم، شهر التقوى
إن الصائمين يشمّرون عن ساعِد الجِدّ في التقوى في هذا الشهر الفضيل
لأنه هو شهر التقوى، كما قال تعالى



وإن مما يثير الدهشة، ويدع الحليم حيرانا، ويثير التساؤل..
ذلكم الاندفاع المهموم نحو المآكل والمشارب،
أو تلك المظاهر التي تظهر من بعض الناس عند صيامهم، فتسوء أخلاقهم، ويضيق عَطَنُهُم (1)،
أو مما نراه من تهافت على تلك البرامج والمشاهد الهابطة..
حيث تكثر في شهر رمضان، ويتنافسون في عرضها
أو ليس ذلك يدعو إلى التساؤل..
لماذا كان هذا كله في شهر رمضان وفي شهر الصيام؟

والإجابة على ذلك تكمن في أن هؤلاء نظروا إلى رسوم الصيام ومظاهره التي تكون بين الناس..
من الامتناع عن المأكل والمشرب، ولم ينظروا إلى روحه العامرة
فإن هؤلاء الذين يُقدمون على هذه الأعمال وتلك الأخلاق التي أشرنا إليها..
ليسوا من كوكب آخر، ولا من ديانة أخرى، إنما هم من المسلمين
فهم يصومون، لكنهم يأتون بما يتنافى مع آداب الصيام ورَوحه

فليس المقصود من الصيام هو الامتناع عن الأكل والشرب وشهوة الفرج في فترة معينة فحسب،
وإنما شُرع الصيام لحِكم جليلة، وآداب عالية رفيعة،
تسمو بالصائم وتزكو به، وتنمّي نفسه، وتطهّرها
وذلك ما أكده الله تعالى في القرآن العظيم،
وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وفي توجيهاته للصائمين
فقد استهل الله تعالى آيات الصيام بالحديث عن التقوى،
ثم أكد ذلك بما جاء في هذا المعنى، فقال

"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"

فالمقصود من الصيام هو تعظيم الله عز وجل، وشكره على هذه النعمة،
وشكره يكون بالعبادة، وبالأخلاق المرضيّة، وبالاستجابة إلى ما يزكّي النفس ويطهّرها من الدنس واللغو والرّفَث

ثم نجد في ختام آيات الصيام أيضا



فإن الله تعالى لمّا تحدّث عن جُملة من تلك الآداب، بيّن أنه إنما أوضح ذلك لأجل أن يتقوا
فقوله تعالى "لعلكم تتقون" أي أنّ الله تعالى شرَع لكم الصيام من أجل أن تتقوا، أو لكي تتقوا، أي تتقوا الله عز وجل



ثم ختم الله تعالى آيات الصيام مُتبِعا لها بالنهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وقال
"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"
فإذا كنتم تمتنعون عمّا أباحه الله لكم، فلا يجوز لكم أن تُقدِموا على أخذ ما حرّمه الله تعالى عليكم

لقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وأكّده في مناسبات عديدة، فقال
"الصوم جُنّة، فإذا كون يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، فإن سابّه أحد أو شتمه، فليقل إني صائم"
أي أن الصوم يمنعني ويحول بيني وبين أن أتفوّه بقول بذيء، أو أتخلـّق بخلق سيء
فالصوم إذن، يرتقي بالإنسان ويمنعه من سيّء الأقوال ومن سيّء الأفعال

الصوم ينمّي التقوى يا عباد الله في نفوس الصائمين، ويُقرّبهم إلى الله عز وجل
ففيه من الفوائد الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وهي روح الصيام،
والذي من أجله شُرِع الصيام الشيء الكثير
فإن الصائم إذا ذاق ألم الجوع، وشدة العطش،
تذكّر إخوانه ممّن يعانون من مأساة الجوع وشدة العطش
ممن هم بحاجة إلى المعونة وإلى الوقوف معه،
فيقوم بحقّهم، ويقوم بالواجب الذي عليه نحوهم، فيؤدي زكاة ماله،
ويتصدق مما أنعم الله تعالى به عليه على إخوانه

وهكذا الصائم، إذا كان يمتنع عن الطعام وعن الشراب، وعمّا أحل الله له في فترة معيّنة،
إذا كان يفعل ذلك مراقبة لله عز وجل..
فإن ذلك العمل يُنمّي تلك المَلـَكة، وهي قوّة الإرادة، واليقظة التامة،
والمراقبة الدائبة لله عز وجل، في ليل أو في نهار، في سِرّ أو في جَهر
فإذا كنت تمتنع عن المأكل والمشرب وأنت تقدر على أن تأتيه،
فإن ذلك يُربّي في نفسك، ويُربّيك على أن تمتنع عما حرّمه الله تعالى عليك،
مِمّا يغضبه الله عز وجل، ويسخط من أجله

فهذا يُنَمّي هذه المَلـَكة، ويقوّي هذه الإرادة، ويحيي تلك المراقبة،
فتكون دائما مراقبا لله عز وجل،
فلا تُفرّط في الواجبات المنوطة بك نحو نفسك، ونحو أسرتك ونحو وظيفتك..
وواجباتك التي استأمنك الله تعالى عليها



نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصائمين المتّقين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

*(1) ضيق العَطن هو : ضيق النفس وقِلـّة العطاء المعنوي.


 الخطبة الثانية 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
أما بعد،

فإن رِحلة الصائمين في هذا الشهر الكريم، وفي تلك الأيام المعدودات..
فرصة للعقلاء وللمجتهدين لأن ينتفعوا من هذا الشهر في سائر أيامهم ولياليهم
فهو يُربّي جانبين مُهمّين عند الإنسان
أولاهم الجانب النفسي، وذلك له علاقة وطيدة بالجانب الديني، وقد أشرنا إليه في الخطبة الماضية
وأما الجانب الآخر، فهو الجانب البدني،
وهو أيضا شديد الصلة والعلاقة بالجانب الديني،
لأن الدين يُهذّب الإنسان، ويرتقي به في سائر مناحي حياته، وفي سائر جوانب شؤونه،
لا يدع شيئا منها إلا وقد أتى عليه، وذلك من كمال هذا الدين

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفطر على رُطَبات أو تمرات أو يحسو حسوات من ماء إن لم يجد رُطَب أو تمرات،
فكان أكله يسيرا
وكان يقول، عليه الصلاة والسلام
"بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صُلبه، فإن كان لا بُد فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثـُلث لنفَسه"
وحذّر من السُمنة، فقال
"ويظهر فيهم السِمَن"

ومن هذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربّينا من الجوانب البدنية،
من خلال هذه الشعيرة العظيمة، شعيرة الصيام، وهي ركن من أركان الإسلام
فإنها كما أنها تُهذّب النفوس، فإنها تهذب الأبدان



لكن الواقع أن كثيرا من الناس يزدادون سمنا في هذا الشهر
لماذا؟ لأنهم لم ينظروا ولم يعتبروا بروح الصيام، وبأسراره البدنية والطبية التي من أجلها أيضا شُرع الصوم
فتلك من الفوائد التي ينبغي على الإنسان أن يهذب بدنه كما يهذب نفسه في هذا الشهر
فلا يأكل فوق طاقته، ولا يأكل حتى يصل إلى حد التُخمة، فيؤذي نفسه، ويؤذي غيره

وذلك ما نجده أحيانا في بعض المساجد، ممن يأتون وقد ملأوا أمعاءهم بسائر أنواع الطعام،
فيظهر منهم ما لا ينبغي،
مما يتنافى مع حُرمة المساجد، وطهارتها، ونقائها، وحدوث السكينة، والوقار، والخشوع، والطمأنينة الذي يحتاج إليه المُصَلـّون

فهؤلاء وأمثالهم يُنَغّصون على المُصَلـّين هذا الخشوع وهذا الاطمئنان..
بما يصدر من أمعائهم من أصوات مزعجة ونحوها، وروائح حَذّر منها الإسلام،
حَذّر من أن يأتي الإنسان إلى المسجد وقد أكل ثوما أو بصلا،
فهذا أولى به أن يُصَلـّي في بيته لأجل أن لا يؤذي المُصَلـّين برائحته
هكذا جاءت نصوص الإسلام، وروحها، التي أكدت على هذا الأمر



ثمة فوائد أخرى يا عباد الله في شريعة الصيام العظيمة،
ومن أهمها تلك الآداب الاجتماعية التي تجمع أفراد البيت وتؤلـّف بين قلوبهم،
وتصل الأواصر، وتقوّي تلك الروابط،

فما أحوجنا إلى أن نتعرّف على أسرار الصيام وفوائده، ومنافعه..
التي من أجلها شُرِع الصيام
مُتأسّين برسول الله صلى الله عليه وسلم
ومصلـّين ومسلـّمين عليه أزكى صلاة، وأزكى تحيّة..
التي هي من أزكى الأعمال وأطهرها



اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم
وارض اللهم عن الإئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ،
وعن سائر أصحاب نبيّك،
وعنا معهم،
بعفوك وكرمك وإحسانك يا ربّ العالمين

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزَكـّها، أنت خير من زَكـّاها
أنت وليّها ومولاها
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار


***
مكتبة خطبة "التقوى في شهر الصيام"
اضغط هنا لتحميل نص الخطبة (بي دي إف)
اضغط هنا لتحميل الملف الصوتي
اضغط هنا للمزيد من الخيارات في المكتبة العلمية

***


 " هدايات القرآن " 
الخطبة الأولى


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل
والصلاة والسلام على السراج المنير والبشير النذير
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
ومن سار على نهجه إلى يوم الدين

أما بعد،

فيا أيها الصائمون، اتقوا الله تعالى في صيامكم وفي شهركم
فإن صيامكم وهذا الشهر من التقوى الذي ينبغي على الإنسان أن يتحلى به في كل وقت وفي كل حال
هذا الشهر العظيم الذي نوّه الله تعالى به في القرآن الكريم
وبشّر به النبي صلى الله عليه وسلم
اختُص بفضائل وبمَزيّة لا توجد في غيره من الشهور
وذلك أن هذا الشهر كان هو بدء بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
حيث أوحى الله تعالى إليه فيه بأوّل ما نزل
"إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم"

أنزل الله تعالى عليه هذه الآيات في ليلة مباركة، في ليلة القدر
"إنا إنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين"
"إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر:..." السورة


ولهذا قال الله تعالى
"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"

وهنا ذكر الله تعالى الهدى بجانب القرآن لأنه هو أبرز صفاته،
وهو أسمى مقاصده الذي من أجلها أنزل القرآن
فالقرآن نزل لمقصد رباني سماوي علوي وهو الهداية


فلم ينزل القرآن لأجل أن يُعلق على الجدران أو أن يتخذ كتعاويذ أو كترانيم
وإنما نزل لمقصد أسمى من ذلك كله وأعظم، وهو الهداية


فقال الله تعالى
"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"

فما هو هذا الهدى.. ومن هم أولئك الناس..
وما هي تلك البينات والفرقان الذي عُني بها في هذه الآيات؟



أما الهدى، فهو أكمل الهدى، وهو الهدى الكامل،
فإنه مهما يكن عند الناس من دلالات وإرشادات،
فإنها لا ترتقي إلى هدي القرآن ودلالالته وإرشاداته
فهو هدى كامل، هدى تام، لما فيه من الخير، ولما فيه من التمام، والنفع..
الذي يَعُمّ كل من اهتدى به
فمن أخذ بهدي القرآن، فقد أخذ بالهدي الكامل، كما قال الله تعالى
"فقد هدي إلى صراط مستقيم"


أما ما يهدي إليه العقل، أو تلك النظريات، والـحَدَس، وما يكون من ذلك، وما أشبهه،
فإنه هدي ناقص، يعتوره ما يعتوره،
أما هدي الله تعالى، فهو أكمل الهُدى،
وهو الذي أُرشِدنا إلى أن ندعو الله تعالى فيه في كل ركعة نقف بين يديه لمناجاته، فنقول
"اهدنا الصراط المستقيم"
وهو هدي القرآن

أما الناس الذين عناهم الله تعالى بقوله "هدى للناس"..
فإنهم عامّة الناس، وهداية القرآن للناس عموما، هداية دلالة وبيان، وحُجة وبرهان،
فمن انتفع بها، فهو حُجة له..
ومن رفضها وأباها، فهو حُجة عليه


ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم
"والقرآن حُجة لك أو عليك"
وقال قتادة وأويس القرني وغيرهما عند قول الله عز وجل
"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا"
"إنه لن يجالس أحد القرآن إلا خرج بخير.. أو بخسارة"
ومن أخذ به واهتدى به وعمل به، فقد حاز الخير كله،
ومن خالفه وناقضه، فقد باء بالخسران المبين


بيّن الله تعالى في هذه الآية أنه هدى للناس..
ثم بين في آيات أخر أنه هدى للمتقين، وأنه هدى ورحمة للمحسنين،
وأنه هدى ورحمة للمؤمنين، وأنه هدى وبشرى للمسلمين..
وأنه هدى وآيات لقوم يوقنون،

وذلك أن الموصوفين بهذه الصفات..
وهم المتقون، والمحسنون، والمسلمون، والمؤمنون، والموقنون..
أولئك هم الذين ينتفعون بهذا الهدي..
ينتفعون به على أحسن الوجوه وعلى أكملها وأتمها
فلهذا، خصّهم الله تعالى بهذا، فقال
"هذا" أي هذا القرآن "هذا بيان للناس" أي لعموم الناس..
ثم قال "وهدى وموعظة للمتقين"
أي أن الذين ينتفعون به ويتعظون به هم من كانوا بهذا الوصف


لهذا ينبغي على الإنسان، وعلى المؤمن أن يجتهد لأن يهيّء نفسه للقرآن قبل تلاوته وقبل حفظه
كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، فقد قالوا
"أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القرآن"


فنتعلم حلاله وحرامه، ولا يغادرون خمسا أو عشرا أو ثلاثا أو آية من آياته...
 إلا وتعلموا ما فيها من العلم والعمل
فإذا هيأ الإنسان نفسه إيمانيا وأعد نفسه وملأ ما بين جوانحه بالتقوى،
فإنه ينتفع بهذا القرآن، ويعود عليه فضله، ويعود عليه خيره

أما من قصّر في ذلك..
بقدر تقصيره يكون عليه التأثير
ولهذا قال الله تعالى
"قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى"

نسأل الله تعالى أن يجعله لنا هدى وشفاء وأن يجعله حجة لنا لا علينا



أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه
إنه هو الغفور الرحيم



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد،

فإن الله تعالى قد قال في هذه الآية
"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس"
أتبعها بقوله
"وبينات من الهدى والفرقان"
فهو كما أنه هدى للناس، فإنه أيضا فيه بيّنات وأدلة تفرِق بين الحق والباطل،
وتبيّن الأدلة على حقيقة الأشياء،
ولهذا قال الله تعالى إنه "بيّنات"، أي فيه من البينات ما يُظهر الحق..
وما يبيّن علاماته، ويبيّن دلالاته، فينتفع بها الناس
وهو أيضا بيّنات من الهدى والفرقان..
أي أنه يفرِق بين الحق والباطل



ومجالات هُدى القرآن كثيرة، تشمل جوانب الحياة كلها:
في العقيدة، وفي الشريعة، وفي السلوك والأخلاق
أما العقيدة، فهي واضحة وبيّنة، بيّنها الله تعالى في القرآن،
وبيّن أن هذا الهدى، إذا اهتدى به إنسان، يزداد هدى وإيمانا..
وقُربا إلى الله عز وجل: قال الله تعالى
"والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم"



وقال تعالى
"وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إياما وهم يستبشرون"



وأما في الشريعة، وفي العبادات والمعاملات، فإنه أيضا كذلك،
وهذا ما نجده في كمال هذه الآية الكريمة، آية الصيام،
فإن الله تعالى حينما شرع الصيام..
بيّن أسراره وأحكامه وبيّن آدابه وما يعود على المرء من منافعه،
فقال الله تعالى
"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"



تشكرون الله تعالى على نعمة القرآن
الذي أنزله الله تعالى هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان

وأما الأخلاق، فإن الله تعالى يقول
"وإنك لعلى خلق عظيم"


فذلك خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان خلقه القرآن،
فمن تخلق بأخلاق القرآن فإنه قد أخذ بأحسن الأخلاق وأجملها..
في أقواله، وفي أفعاله، وفي تعاملاته مع أهله ومع الناس..
وفي كل ما يُسند إليه، وفي كل ما يواجهه،
هو على أكمل الهدي، وعلى أكمل الأخلاق،
لأنه أخذ بأخلاق القرآن العظيم..
التي هي أكمل الأخلاق،
والتي كان يتحلى به خاتم النبيين وإمام المرسلين الذي أُمِرنا بأن نكثر من الصلاة والسلام عليه

فأكثروا من الصلاة والسلام عليه
فإن ذلك أدعى بأن تهتدوا بهديه، وأن تتخلقوا بأخلاقه، وأن تسيروا على نهجه


اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم
وارض الله عن الأئمة الحنفاء أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي
وعن سائر أصحاب نبيك
وعنّا معهم
بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار


***
مكتبة خطبة "هدايات القرآن"
اضغط هنا لتحميل نص الخطبة (بي دي إف)
اضغط هنا لتحميل الملف الصوتي
اضغط هنا للمزيد من الخيارات في المكتبة العلمية
***

"فتح مكة"
 
الخطبة الأولى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله نصَر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأن نبينا محمد عبده ورسوله
نبيّ الملحمة ونبيّ الرحمة
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

أما بعد،

فاتقوا الله عباد الله في هذا الشهر الكريم
فإنه الشهر الذي اختُص بمزايا وبفضائل نوّه بها القرآن وحفظها لنا التاريخ
ومن ذلك، ما تحقق فيه من الانتصارات والفتوحات العظيمة

فهذا الشهر هو شهر جهاد وعمل واجتهاد وعبادة وسموّ خلقي



هو شهر ترتقي فيه النفوس،
وتزكو فيه النفوس وترنو إلى الأعمال الطيبة والأقوال الصالحة
ويشتد نشاطها إذا اطـّلعت على تاريخ أسلافها،
ولا سيّما تاريخ النبوة

سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

ففي السنة الثامنة من هجرته عليه الصلاة والسلام، وفي شهر رمضان،
وفي مثل هذا اليوم التاسع عشر من هذا الشهر العظيم،
كان الرسول صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة وأبواب الكعبة لينجز الفتح الأعظم،
الذي ابتهجت به النفوس،
وأشرقت به أنوار الأرض،
وتلألأت به نجوم السماء فرحا واستبشارا بنصرة هذا الدين العظيم

كان فتحا عظيما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرجّع
"إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا"

في هذا الفتح تجلت معالم السمو الخلقي الذي كان يشتمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنه العفو، والتسامح والتواضع منذ أن خرج عليه الصلاة والسلام ومنذ أن بدأ به الاستعداد الأول لفتح مكة

فإنه لم يبدأ بقتال المشركين
بل هم الذين نقضوا عهد الحديبية
فتعدت بكر على خزاعة
بكر كانوا في عهد المشركين، وخزاعة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
فنقضت بكر، بمعونة من قريش، العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فحُقّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقفهم عند حدّهم،
وأن يعلن الفتح العظيم والنصر المبين لهذا الدين العظيم
قام بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإعلام المشكرين أو بمحاولة لإعلام كفار مكة أن الرسول صلى الله عليه سلم يريد أن يغزوهم
فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك،
أحضر حاطب ابن أبي بلتعة،
وسأله ما الذي حمله على هذا،
فأخبره إنما فعل ذلك لتكون له يدا عند المشركين وعند كفار مكة حينما ينزلون بساحتهم،
فلا يعتدوا على ذريته وأهله.

فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عفا عنه
ولما أراد الفاروق أن يضرب عنقه، قال
"دعه، فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"

وقبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة،
جاءه أبو سفيان - سيد قريش دون منازع -
وهو ممن حارب رسول لله صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش ما يزيد على عشرين عاما،
فإذا به يعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قبله، بل ومنحه فقال
"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن"

وهكذا، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقن الدماء ويحفظ ساحة الكعبة من الأشلاء،
فلما دانت له الرقاب،
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تواضع،
حتى إن جبهته لتكاد تلامس رحل ناقته من شدة تواضعه، عليه الصلاة والسلام
فلم يدخل بزهوّ المنتصرين،
ولا بعُجب الفاتحين،
وإنما دخل عبدا لله عز وجل،
خاشعا متخشعا متذللا لله، شاكرا لنعمة الله تعالى على هذا الفتح العظيم

ثم أخذ يطوف بالكعبة عليه الصلاة والسلام وهو يضرب هذه الأصنام التي كانت حولها على قفاها لتسقط على وجهها وهو يقول
"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"

ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة بـعضادتي الكعبة عند بابها، فقال
"ما تظنون أني فاعل بكم يا معشر قريش؟"
فقالوا "أخ كريم وابن أخ كريم"
ثم قال
"اذهبوا فأنتم الطلقاء"

لقد كان هؤلاء الطلقاء على مدار ما مضى من السنين ينتهزون الفرص ويتحينونها ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليجهزوا على دعوته
فكانوا لا يفوّتون شيئا من ذلك

فلما حانت الفرصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ بثأره منهم..
حكّم شريعة الإسلام،
وحكّم خلقه عليه والصلاة والسلام، وأخلاقه الكريم وعفوه الجمعّ فقال
"لا أقول لكم إلا ما قال يوسف الصديق عليه السلام:
"اليوم يغفر الله لكم"
فعفا عنهم عليه الصلاة والسلام

فأي سموّ خلقي، وأي تواضع..
وأي مرتبة من العفو يسجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاريخ للتأسى به أمته
يفعل هذا في مثل هذه الأيام الفضيلة،
في شهر رمضان،
في أيام العفو، وأيام التسامح،
ليضرب أروع الأمثلة في صفاء النفوس وضرب أحسن الأخلاق لينتشر الخير وتعمّ الرحمة على أرجاء هذه الأرض

فما أحوجنا إلى أن نتعرف على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العالية ومواقفه الشريفة

من تلك المواقف..
أنه جاءه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بأبيه وهو مكفوف – أبو قحافة
فماذا كان من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى هذا الشيخ الكبير؟
قال
"هلا تركته في بيته فنأتيه!"
 وهو قائد الأمة!
يقول لعدوّ كان يناصبه العداء وكان يكفر بدعوته ويشرك بالله،
لكنه تعامل مع الناس، عليه الصلاة والسلام، بأخلاقه، لا بأخلاقهم
وهو الذي قال
"أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين

أحمده سبحانه وأستعينه وأستغفره وأستهديه
وأصلي وأسلم علي سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه

أما بعد،

فما أسعدكم أيها الصائمون بهذه البشائر التي تتوالى في هذا الشهر الكريم
فهذه العَشر.. الأواخر زمنا، الأوائل مرتبة ومكانة
فإنّ ما سبقها إنما هو تهيئة وإعداد لها، وتهيئة للنفوس، وتجهيز لها لتعدّ عدتها وتشمّر عن ساعد الجِد لهذه العَشر المباركات

التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخلت اجتهد فيها، وشدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقذ أهله، فكانت شغله الشاغل عليه الصلاة والسلام
فمذا أعددت لها أيها الصائم؟
ماذ أعددت لهذه العشر؟

لا ينبغي أن تكون هذ العشر كسائر أيامك من شهر رمضان ولا من سائر الأيام طوال العام
بل ينبغي عليك أن تجتهد تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرَحا بأن مكّنك الله وبلغك إدراكها وأنت في عافية وفي مُكنة من أن تبذل المزيد من الجهد بالعبادة والعمل والأخلاق

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه الليالي وفي ليالي رمضان،
وكان إذا لقيه جبريل كان أجود الناس
وكان أجود ما يكون في رمضان
وكان يجود بما عنده من المال، فهذا من الاجتهاد في العمل
وكان يطلق الأسير، وكان يعفو ويصفح ويدعو ويكثر من الدعاء،
ويحث على الإكثار من الدعاء في تلك الليالي
"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"

فمن أراد أن يعفو الله عنه، فليعفو عن غيره وليعفو عن إخوانه،
وليطهّر نفسه من الغِلّ ومن الحقد والضغائن ليلقى الله تعالى بقلب سليم،
والجزاء من جنس العمل

فإذا كنت تعفو عن غيرك..
فإن الله تعالى أجلّ وأعظم، وأكرم عفوا منك بغيرك،
فيعفو عنك،
وما أحوجنا إلى عفو الله عز وجل

وحن نقترف السيئات ونقع في الخطايا

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه الليالي بكل المعاني التي أشرنا إليها..
قولا، وفعلا، وخُلقا، وتعبدا، وتلاوة للقرآن العظيم

فاجتهدوا رحمكم الله، وتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي،
مكثرين من الصلاة والسلام عليه،
فإنها من أزكى الأعمال وأطهرها
وإن من صلى عليه صلاة، صلى الله عليه بها عشرا

اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد
وارض اللهم عن الإئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
وعن سائر أصحاب نبيك
وعنا معهم
بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين

الله أعزّ الإسلام والمسلمين
الله أعزّ الإسلام والمسلمين
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم

***
مكتبة خطبة "فتح مكة"
اضغط هنا لتحميل نص الخطبة (بي دي إف)
اضغط هنا لتحميل الملف الصوتي
اضغط هنا للمزيد من الخيارات في المكتبة العلمية
***

خطب الجمعة
"ولتكملوا العدة – ختام شهر رمضان"
26 رمضان 1432


الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله، تعالى جدّه، وتقدّس اسمه
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له
وأن نبينا محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

أما بعد،

فيا أيها الصائمون، اتقوا الله تعالى فيما بقي من هذا الشهر الكريم

وذلك بأداء ما شرعه الله تعالى فيه على الوجه الذي يحبه ويرضاه
وقد نوّه الله تعالى بختام هذا الشهر في آيات الصيام
وأشار إلى عبادات عظيمة ينبغي على الصائم أن يجتهد في أدائها وأداء مقاصدها
 على الوجه الذي يحبه الله تعالى ويرضاه
فقال الله تعالى
"يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"

فهذا الصيام، مع ما فيه من مشقة، ومن منع للنفس عن رغباتها،
إلا أنه للصائم على الوجه الصحيح ينطلق إلى عبادة تستوجب الشكر،

فإن من وفّقه الله تعالى للصيام والقيام
وما رتّبه الله تعالى عليهما من مغفرته وعِتقه
من وفّقه الله إلى ذلك وُفّق إلى خير عظيم ينبغي أن يجتهد في أداء شكره


ولهذا كان وهب ابن الورد رحمه الله إذا سُئل عن ثواب عبادة من العبادات..
قال لا تسألوا عنها..
ولكن اسألوا عما يجب على من أُعين على أداء هذه العبادة من أعمال يشكر الله تعالى عليه بتوفيقه إلى أدائها

كم من الناس لم يتمكنوا من إدراك هذا الشهر،
أو حيل بينهم وبين صيامه وبين قيامه
لكنّ فضل الله تعالى واسع، ورحمته أعمّ،
لكن من وُفّق إلى ذلك كان عليه الشكر ألزم

فقال الله تعالى
"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم"

فمن أكمل هذه العِدة، ووفّقه الله تعالى لإتمام صيام هذا الشهر العظيم فإن عليه أن يُعظّم الله عز وجل بتكبيره

فتكبير الله تعالى هو تعظيمه
والتكبير هو تفعيل واجتهاد وعمل قلب ولسان وجوارح
تعظيم الله عز وجل بأنه هو أكبر من كل شيء
فما عداه ناقص لا يستحق الإلهية

الله تعالى وحده هو المعبود، لا معبود سواه
وهو أكبر وهو أعظم من كل شيء


وتكبير الله تعالى يكون باللسان أيضا، لكن يتواطأ مع القلب
فإذا تواطئا معا، تحقق مقصد التكبير، وهو تعظيم شعائر الله، كما قال تعالى
"ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"
وصيغته تكون بهذا اللفظ، وبما جاء في معناه من التسبيح والتهليل والتحميد

وكان ابن المبارك رحمه الله يقول متمثلا لهذه الآية
"ولتكبروا الله على ما هداكم"
يقول
"الله أكبر الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
والله أكبر الله أكبر
على ما هدانا

أي على ما هدانا ويسره لنا من الصيام والقيام وفضائل هذا الشهر العظيم وبركاته وخيراته العميمة


والتكبير يبدأ من ليلة العيد، وقد حدده كثير من العلماء عند الخروج إلى مصلى العيد
فيتعيّن في هذه الحالة ويتأكد
ولهذه استحبه كثير من العلماء عملا بهذه الآية
"ولتكبروا الله على ما هداكم"

فإذا لبس المؤمن ثيابه، وتجمل بها، وأرادا أن يخرج إلى مصلى العيد،
فإنه ينبغي عليه أن يشتغل بهذه العبادة دونما سواها.. وهي التكبير
فيكثر من تكبير الله عز وجل، ويكثر من تحميده وتسبيحه، وتهليله إلى أن يدخل الإمام، فيكبروا بتكبيره
وحينئذ ينتهي وقت التكبير

يقول لله عز وجل
"ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"
فالشكر هو تصور النعمة..
أن يتصورها المؤمن بقلبه فيحمد الله عز وجل على أن بلغه هذه النعمة وهي نعمة إدراك شهر رمضان
وما فيه من الخير وما فيه من الرحمات والبركات
وما فيه من الأنوار والهدايات البيّنات

من وُفّق إلى هذا فإن عليه أن يشكر الله عز وجل
وشكره يكون بهذا التصور وباستشعار هذه النعمة
ويُقر أيضا بلسانه معظما لله عز وجل وبجوارحه
ومِن شُكر الله عز وجل أن يتبع هذه العبادة بعبادة مثلها
فلهذا يستحب أن يصوم بعد شهر رمضان سِتا من شوّال
وما يتيسر له من صيام النوافل
وما يتسير أيضا له من قيام الليل، فقد ذاق لذّة التهجد ولذّة التدبر والترنّم بكلام الله عز وجل والتغنّي بآيات الذكر الحكيم
فما الذي يمنعه من أن يقوم على هذا النحو في سائر لياليه
وأن يصوم في سائر أيامه
فذلك من شكر الله عز وجل


بل قد ذكر العلماء أن مِن شُكر الله تعالى أن يَظهر ذلك عليه
ويَظهر ذلك في ملابس العيد
فيتزين المؤمن ويتجمّل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وشكرا لله عز وجل على هذه النعمة
فذلك لون من ألوان الشكر التي ينبغي على المؤمن أن يتمثلها وأن يتجمل بها امتثالا لقول الله عز وجل
"ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"
أي إذا فعلتم ذلك، وُفِّقتكم إلى شكر الله عز وجل

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المعظمين لحدودة ومن الشاكرين لنعمه

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي، ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن سار على نهجه إلى يوم الدين

أما بعد،

فثمة أعمال جليلة تكون في ختام هذا الشهر
ومنها ما يكون في هذه العشر وما فيها من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر
وقد بقي خير كثير لمن أراد أن يجدد التوبة وأن يبذل المزيد من الجهد والتعبد لله عز وجل
وقد بقيت ليلة سبع وعشرين
وقد كان بعض العلماء، ومنهم أبيّ بن كعب رضي الله عنه، يجزم بأنها هي ليلة القدر
فلهذا ينبغي على المؤمن أن يجتهد فيها
وأن يجتهد في سائر هذه الليالي العشر وأيامها كما كان يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبقي فيه أيضا آخر ليلة، وهي الليلة التي يغفر الله تعالى فيه للصائمين والقائمين
وقد جاء في مسند أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص،
وذكر منها أن الله تعالى يغفر لهم في آخر ليلة من ليالي شهر رمضان
قيل
"يا رسول الله.. أهي ليلة القدر؟"
قال "لا، ولكنّ العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله"
ولهذا ينبغي على المؤمن، وعلى كل صائم أن يجتهد وأن يبادر بالتوبه لأجل أن يوافق هذه الليلة، وهي آخر ليلة من هذا الشهر، أن يوافقها وهو دائب، وهو مقبل على الله عز وجل

فما أعظم مواسم الخير وما أكثر نفحات الرحمن في هذه الليالي وفيما بقي من هذا الشهر الكريم

ومنها زكاة الفطر، وهي تكون قبل الخروج إلى مصلى العيد
ويجوز أيضا إخراجها قبل يوم أو يومين
وهي صاع من بر أو شعير أو أرز أو إقط أو تمر أو غير ذلك مما يقتات به من الطعام
وتُدفع للمساكين، وهي كما قال ابن عباس رضي الله عنهما
هي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين

فإن الصائم، مهما بلغ من التحرز والتحوط، ومهما بلغ من الجهد والتعبد، فإنه لن يبلغ أعلى المراتب إلا بفضل الله عز وجل

ومهما يبذله من جهد، فإنه لا بد أن يعتوره التقصير والنقص
فتأتي هذه الصدقة بمثابة السُنّة الراتبة التي تجبر ما في الصلاة من نقص، فتجبُر هذه الصدقة، وهي صدقة واجبة على القادر عليها، تجبُر صيامه ليكون تاما ووافيا بإذن الله تبارك وتعالى

وهي تدل على الترابط الاجتماعي الذي يرنو إليه الإسلام
وكل عبادة من هذه العبادات هي رمز ولها مقاصد سامية في صلاح المجتمع وإصلاحه والسعي إلى ترابطه

وذلك ما نجده في مظاهر العيد، التي يتزاور فيها الناس ويتآلفون ويُسلم بعضهم على بعض
ومن أهم ما ينبغي أن يُعتنى به في هذا الشهر التجمل الداخلي
جمال الباطن، وتنقية القلوب من ضراوة الحسد والغِل، والغيظ، والكيد، والمكر، وخبث الشياطين والأهواء
فهذا من أهم ما ينبغي أن يتجمل به المرء، وأن يسعى إلى إصلاحه في يوم العيد


فلهذا ينبغي أن تذوب الخلافات والنزاعات التي بين الإخوة وبين الجيران وبين المسلمين فيما بينهم في مثل هذه الأيام المباركة
وأن يُجددوا حياتهم ويبدأوا بعد شهر رمضان بصفحة جديدة مشرقة بيضاء
لأن الصائم بإذن الله تعالى يكون قد خرج من صيامه وقد غفر له،
كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة


ألا وأكثروا من الصلاة والسلام عليه
فإن من صلى عليه صلاة، صلى الله عليه بها عشرا
وقد بدأ الله تعالى بنفسه، وثَنى بملائكته المسبحة بقُدسه، وثَلّثَ بكم أيها المؤمنون من جِنّه وإنسه، فقال
"إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه سلموا تسليما"

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد
وارض اللهم عن الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
وعن سائر أصحاب نبيك
وعنا معهم
بعفوك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام

***
مكتبة خطبة "ولتكملوا العدة"
اضغط هنا لتحميل نص الخطبة (بي دي إف)
اضغط هنا لتحميل الملف الصوتي
اضغط هنا للمزيد من الخيارات في المكتبة العلمية
***
 وكل عام وأنتم بخير
 
 

هناك 4 تعليقات:

  1. جزاك الله كل خير وبارك فيك شيخنا الفاضل

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا على دعواتك الطيب ولكم بمثلها

    ردحذف
  3. الله يوفقك بما يحبه ويرضاه

    ردحذف
  4. جزاكم الله خيرا على دعواتك الطيب ولكم بمثلها

    ردحذف